الأحد الثالث من الصوم.. أمير يترك قصره ويرعى خنازير
خاص بالحق والضلال
كتبت:جاكلين رافت
نقدم لكم ومن خلال موقعكم الحق والضلال
كان يعيش الابن الضال في قصر بديع وفسيح، يتنسم عطر الهواء النقيّ المفعم بأنفاس الحُب الطاهر البريء وينظر إلى الرياحين وهى تتمايل مرنّمة أناشيد سليمان والعصافير مغرّدة مزامير داود لكنَّ عطر الربيع لا يدوم فقد أتى الخريف بزوابعه وأسقط أوراق أشجاره ونثرها الهواء كأنّه يريد أن يُكفّن بها أزهاره، فالفتى الغض الذي لم يذق بعد طعم الحياة، يُحرّك جناحيه ليطير سابحاً في فضاء واسع مُلبّد بالغيوم.
وفى لحظة هى الأسوء في حياته نفث ثعبان الموت سمومه في قلبه المضطرب وأيضاً عقله المتمرّد فطلب من أبيه أن يُعطيه نصيبه من الميراث لكي يذهب إلى كورة بعيدة وقد كانت هذه الفكرة الخبيثة الجَهَنَّمية أول فصل في رواية الابن الضال مـع الخطية .
لم يحتمل الأب أن يرى ملاكه الذي أطعمه حبَّات قلبه وسقاه نور عينيه، وجعل من ضلوعه قفصاً من ذهب لحمايته، ومن قلبه إسفنجة يمتص منها ماء السعادة، لم يحتمل أن يراه وهو يُسمّر نفسه على صليب الحياة بمسامير الألم، أو يُعانق النار ظاناً أنَّها النور.
وأخيراً قبّل الابن أبيه قُبلة صفراء باهتة، ثم رفع أصابعه المعوّجة ليُحييه وإن كان قريباً من جسده، إلاَّ أنَّ هوة نفسية عميقة كانت تفصل بينهما ثم ترك مهد الراحة وأحضان الحب ليحيا في أرض الشقاء ويجالس القوم الأشرار يأكل الخبز اليابس بالتنهد ويشرب الماء العكر الممزوج بالدموع.
وينطلق الابن مسرعاً في طريق الموت، إلى بقعة انبثقت من الجحيم،فعاش بين قوم خُطاة وعُراة من الفضيلة، فشعر ربيب القصور بالمذلة، واشتهت نفسه الطعام السماويّ الذي نلتهمه بأفواه قلوبنا، وقد عجنته ملائكة الله بالحنان وخمّرته بالمحبة، فأدرك أنَّ هذه المجاعة الجسدية والروحية لن تزول إلاَّ بين أحضان أبيه.
ويعود الابن الضال إلى بيت الحُب ويتحوّل الحُلم إلى حقيقة إذ وجد أبيه في استقباله فاتحاً ذراعيه لاحتضانه، فجثا على ركبتيه وامتلأت عيناه بالدموع الذي طفح على لسانه فتكلّم بدموعه أكثر مما تكلّم بلسانه، بعدما تذكّر خروجه من البيت وأخذ نصيبه من الميراث وأبيه لا يزال حي وكطفل رضيع قد انفصل عن صدر أُمه الحنونة ثم عاد قال بصوت ملؤه الندم: " يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّا ًبَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً" (لو21:15).
فعانقه أبوه وقبّل عينيه راشفة الدمع، وطلب من عبيده أن يُخرجوا الحُلة الأولى ويُلبسوه، ويجعلوا خاتماً في يده وحذاء في رجليه ويُقدّموا العجل المُثمّن ليأكلوا ويفرحوا وبصوت ألطف من نغمه الناي قال: " لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ "(لو24:15).