فاطمة ناعوت تكتب ..هيا بنا نَتَدَهْوَر!
قبل أن يفهم “بعضُهم” عنوان مقالى على نحو خاطئ، “كعادة ذلك “البعض” وهوايتهم الأثيرة فى سوء الفهم”، ثم أفاجأ غدًا بدعوى قضائية جديدة ضدى، استمعوا إلى هذه الحكاية الكوميدية الطريفة.
كنتُ فى ليبيا قبل سنوات، أحاضرُ فى مؤتمر أدبى. بعدما أنهيتُ قراءة ورقتى، وما أنا خطوتُ نازلةً من المنصّة، حتى فوجئتُ بشابٍّ ليبى يتقدم نحوى فى لهفة. ثم حدثنى باللهجة الليبية التى لا أفهمها كثيرًا، قائلاً ما يعنى:
“أستاذة فاطمة أنا سعيد للغاية أن أراك شخصيًّا. هذه فرصة عظيمة. ما رأيك “نتدهور”؟ وبالمرة أجيب لك حقيبة بدل اللى اتكسرت”.
كانت حقيبة السفر الخاصة بى قد كُسر مقبضها فى المطار، وطلبتُ من الرفاق أن يصطحبونى إلى السوق بعد انتهاء فعاليات المؤتمر لشراء حقيبة جديدة. استوقفتنى كلمة “نتدهور” التى لم أفهم معناها. فلجأتُ إلى المعجم المثبّت فى رأسى وتساءلت بيني وبين نفسى:
يَتَدَهْوَر، تدهورًا؟!! كلمة عجيبة، ربما لها معنيان. أحدهما حَرفىّ، والآخر مجازى.
المعنى الحَرفى هو التدهور الفيزيقى. أى الوقوع. يتدهور الشىء: يقع من أعلى إلى أسفل. تدهورتِ الصخورُ، أى سقطت وتهاوت. فهل من الممكن أن يطلب منّى ذلك الشابُّ الطيب أن: نقع؟ نتعثّر ونسقط على الأرض مثلا؟! مستحيل بكل تأكيد.
أما المعنى الأدبى أو المجازى، فهو التدهور المعنوىّ. أى الانتقال من حال أفضل إلى حال أسوأ. تدهوُرُ الصحّة. تدهورُ المعيشة. تدهورُ الأخلاق، إلخ. هنا ضربنى الانزعاجُ الشديد، واستشطتُ غضبًا، وانفجرتُ فى الشاب قائلة: “من فضلك امشى من قدامى دلوقت!” وتركته مصعوقًا من ردّ فعلى، وأسرعتُ مبتعدة. فسمعته يهمسُ بخفوت وقد احمرّ وجهه من الخجل: “أنا آسف يا أستاذة، كنت فقط أريد أن أشترى لك حقيبة!” فزاد غضبى وجُنّ جنونى والتفتُّ إليه والشررُ يتطاير من عينى: “كمان؟! أنت مش محترم! وحذارِ ثم حذارِ أراك أمامى حتى ينتهى المؤتمر وأسافر” ثم مضيت.
بعد هذه الواقعة الحزينة بشهور، سافرتُ إلى تونس للمشاركة فى مؤتمر حول المرأة الكاتبة فى مدينة نابل. بعد المؤتمر خرجنا، نحن مجموعة من الأديبات، نتجول بالسيارة فى أطراف المدينة الجميلة. كانت الأديبات التونسيات يتكلمن بالدارجة التونسية ولم أفهم حرفًا مما يقُلن. فسألتنى صديقتى الروائية الجميلة “حياة الرايس”: “لماذا لا تشاركينا الحديث؟” ضحكتُ وقلت لها: “لا أفهم حرفًا مما تقلن! حين أسافر إلى أمريكا أو أوروبا، لا أعانى من غياب التواصل مع الناس مثلما أعانى فى المغرب وتونس والجزائر. لهجاتكم صعبة جدًّا علينا. أنتم تفهمون الدارجة المصرية لكننا لا نفهمكم. ولا أدرى أية قومية عربية ننادى بها إن كانت اللغة تشكّل بيننا هذا العائق؟!”
فأجابت صديقتى: “والله معك حق. مفرداتنا مختلفة على طول الوطن العربى وعرضه. فمثلا أنتم في مصر تقولون: نروح نتفسح. فى سورية يقولونها: نطلع على شى مشوار. فى ليبيا يقولونها: نروح نتدهور…” هنا قاطعتُها صارخةً وسألت: “بتقولى إيه؟ نتدهور بالليبى يعنى نتفسح؟! بجد؟ صحيح؟ يا إلهى! أستغفرُ الله العظيم! سامحنى يا رب!”
وأخرجتُ هاتفى فورًا وبدأت أبحث فى إيميلاتى القديمة عن مراسلات جهة المؤتمر الليبى عساى أصل إلى من يدّلنى على ذلك الشاب الذى ظلمتُه بسبب جهلى اللغوى. وبالفعل، دلّنى أحد الأصدقاء على رقمه وهاتفتُه واعتذرت له عن تصرفى فى ذلك اليوم التعس وادّعيت أن يومها جاءتنى أخبار مزعجة من مصر فكنتُ على غير “الموود” اللائق.
فرح الشاب للغاية بمهاتفتى وأخبرنى أنه من يومها يسأل نفسه فيم أغضبنى وهو يحبنى ويقدّرنى ولا يترك لى مقالا أو كتابًا أو قصيدة إلا وقرأها؟! وسامَحنى.
القومية العربية لا تقوم بوحدة اللغة “إن حدث”، أو وحدة العقيدة “إن حدث”، إنما بتناغم الأهداف والطرق والرؤى والأفكار.
الاتحاد الأوروبى يضمُّ ثمانى وعشرين دولة مختلفة اللغات متباينة الطوائف والمعتقدات، لكن شعوب تلك الدول، وحكوماتها اتفقت على مبدأ أساسى: “احترام الإنسان”، فنجح اتحادهم. فى مقابل قوميتنا العربية التى لم تنجح يومًا ليس لاختلاف ألسنتنا ولهجاتنا، وليس لأن اللغة العربية التى من المفترض أن تكون الجسر الذى يجمعنا، لم تعد تُحتَرم لا من كبير ولا من صغير، لا من أديب ولا من طالب جامعة، وليس كذلك لأننا طائفيون بامتيار، نتقاتل على المذهب والطائفة والمّلة والمعتقد حتى من قبل أن نقرأ وندرس ونتمعّن فى هذه الملّة أو ذاك المعتقد الذى ورثناه وراثةً ولم نعبأ بأن نتعب ونتفقه فيه لنكون ورثة أبرارًا، لا، ليس لكل ما سبق أخفقت قوميتنا العربية المزعومة، بل أخفقت لأننا لم نلتق على الفكرة التى تبنى المجتمعات: “احترام الإنسان”.
كل قومية عربية وأنتم بخير، وهيا بنا نتدهوّر.