اليماماتُ مذعورةٌ فى بلادى
بقلم فاطمة ناعوت
عند شُرفة المنزل الذى أسكنه الآن فى مدينة أبو ظبى الوادعة، ثمة يماماتٌ، تُحوِّم ثم تحُطُّ لتلتقطَ حبوب البُرغل التى أنثرُها مع نسائم الفجر الأولى. فى شرفة بيتى بالقاهرة، ورغم أنها تُطِلُّ على حديقة شاسعة مترامية الأطراف، قلّما تأتى اليماماتُ، رغم حبوب القمح والشعير التى أنثرها كلَّ نهار، ورغم أن قلبى الذى يعشقُ الطيرَ والنَّغمَ، هو هو الذى ينثرُ الحَبَّ والحُبَّ هنا، وبالقاهرة!
طالما حيّرتنى تلك الظاهرة! مشهدٌ لا نراه إلا فى ميادين الغرب، وعند الحرم المكىّ، وفى بلاد الإنسان . يماماتٌ تسيرُ على الأرض تلتقط القمح من بين أقدام المارّة، دون خوفٍ من دهسِ قدمٍ باطشة، أو ترقُّب نبالٍ مُصوّبة نحو القلبِ الصغير الواجف، ولا فزعٍ من نَصلِ سكينٍ غاشمة تجزُّ العنقَ النحيل لتعرفَ من أين يتدفق الدمُ. لماذا لا نشاهد هذا المشهد المثقف فى بلادنا؟ لماذا لا يُحوِّم حول رؤوسنا الطيرُ ويحطُّ فوق أكتافنا، فإن بسطنا أمام عيونه الطيبة أكفَّنا الطيبة تحمل الحبوب وكسرات الخبز، حطَّ عليها، والتقطَ رزقَه المقدور، ثم دعا لنا فى سِرِّه، قبل أن يبتسم ويعاود التحليق، لماذا؟! لأن ذاكرة اليمامات دوّنت على مدى السنوات والعقود، بطشَنا بكل ما هو صغير ونحيل، وقسوتَنا مع كل ما، ومَن، لا حول له ولا قوّة. فى أبجديات الجمال والفضيلة والتحضّر، يحمى القوىُّ الضعيفَ. لكن فى ثقافة حَيِّنا: يستقوى القوىُّ بقوته ويظلم، ثم يجد ما يفخر به، وهو لو تعلمون مدعاةٌ للخجل والتوارى عن مرصاد الإنسانية النبيلة! خسارة يا أولاد حارتنا! لم تتقنوا بعد درسَ الإنسانية الذى سبقنا إليه الغربُ والبلاد العربية التى تنتهج الحضارة والترقّى! ننادى بالرحمة والتحضُّر مع مخلوقات الله، فتدعوننا: كفّارًا !! وما الكفرُ إلا القسوة والفظاظة التى تملأ قلوبَنا ومدوناتِنا وأفكارَنا؟! التحضّر والإنسانية والسموّ ليست فى احترام الآخر ؛ لأن القانون يحميه أو لأنه قوىٌّ يحمى نفسَه بنفسه، بل يبدأ التحضر من رحمة مَن لا يملك ذراعين مفتولتين يدفع بهما الأذى عن نفسه، واحترام ما لا يحميه القانونُ الأعور، الذى لا يحمى ما لا يشكو مثل الطير والحيوان والنبات، والآثار والممتلكات العامة. كَم نحن بعيدون عن التحضّر والإنسانية والسموّ.
أُذكّركم بمقالى هنا بـ المصرى اليوم بعنوان أولاد الوزّة ، بتاريخ الاثنين ١٨ إبريل ٢٠١٦، وفى المقابل يُحكى عن إحدى العائلات المصرية المهاجرة إلى أمريكا، وقد فوجئت باستدعاء المحكمة، بتهمة اصطياد بط البحيرة، وذبحه. مَن الذى أبلغ؟ عمال النظافة إذ وجدوا الريش فى قمامتهم. جامعُ القمامة ليس بحاجة إلى قراءة وصايا المصرى القديم عن رحمة الطير والحيوان ليترقّى، ولم يقرأ فلسفات النباتيين ليتحضّر، إنما تعلّم فى طفولته أن للحيوان حقّ الحياة بكرامة، مادام لا يتقاطع مع جوعنا، ونحن فى الأصل نباتيون، لأننا لا نمتلك أنيابًا معقوفة كالضوارى.
انظرْ إلى النافذة يا حبيبى!/ من أين جاءَ ذاك العصفورُ/ وتلك الشجرةُ/ وذاكَ المرجُ الأخضرُ/ واليماماتُ التى تُغطى أرضَ الميدانِ/ دون خوفٍ من أحذية العابرين!/ حيثُ اليماماتُ تجولُ فى الطرقاتْ/ دون خوفٍ من دهْسِ المارّة/ ولا حصواتِ النِّبالْ . من قصيدة حفنة أرز | ديوان اسمى ليس صعبًا دار الدار ٢٠٠٩.