السير يعقوب وليلى ابنة الفقراء 1102604
بقلم فاطمة ناعوت
ربما ليس اسمها ليلى ، هذا اسمٌ اخترعتُه أنا للضرورة الشعرية. لا أعرف اسمَها، كل ما أعرفه أنها طفلةٌ جميلة، لأن كل الطفلات جميلات. كل ما أعرفه أنها فقيرة، شأن معظم أطفال الريف المصرى وصعيده. كلّ ما أعرفه أن أمَّها تعمل فى خدمة أحد البيوت، وأنّ الطفلة كسيرةٌ وحزينة، لا تلعب بالدمية، ولا أرجوحة لديها. ليس فقط بسبب فقرها، وقلّة حيلة أبويها، بل بسبب وهن قلبها الصغير الذى لا يتحمّل المرض المبكّر الذى ضربه وهى بعدُ تتلمّس خطاها المتعثّرة الأولى فى الحياة.
مقالات متعلقة
كيف ندعو على ظالمينا؟
أولاد الوزّة
كنتى سيبيه يمسكها يا فوزية!
لم أهتمّ أن أسأل صديقتى الجميلة عن اسم الطفلة العليلة، ليكون مقالى مُجهّلَ الأسماء فيسرى على كل الأطفال والطفلات الذين اختبر الله ذويهم بمحنة مرض أطفالهم. لم أهتم باسمِها، لأن بطل قصتنا أيضًا لم يهتم بمعرفة اسم الطفلة ولا مركزها الاجتماعى ولا لون بشرتها ولا عقيدتها. هى بالنسبة له طفلة تستحق الحياة، كونها إنسانًا . بطل مقالى لا ينظر إلى وجوه مرضاه، ولا يفتّش عن اسم الأب والجد وجد الجد ليحدّد نسبها وعقيدتها. لا ينظر إلى ملابس مرضاه، إنما يخترقُ بصرُه تلك الملابس وينفذ إلى ما وراء القفص الصدرى ليتأمل تلك العضلة الصغيرة الواهنة، ثم يفتّش عن الداء، ويمسك مباضعه الجراحية ويبدأ العمل.
أما صديقتى الجميلة فهى ابنة أحد رموز مصر النيّرة. المثقفة المستنيرة أمينة ثروت أباظة ، التى نذرت حياتَها من أجل حقوق فقراء هذا البلد الطيب، وكذلك من أجل حقوق تلك الكائنات المستضعَفة التى لا تقوى على البوح بأوجاعها: الحيوان.
حكت لنا صديقتى عن خادمة شقيقها، وطفلتها التى لا تملك المال ولا السلطان، إنما تملك المرض الذى ينهش أوردة قلبها النحيل وشرايينه. أرسلوا حالتَها للطبيب الشهير، فكانت فى اليوم التالى ترقد على أحد أسرّة المستشفى بين يدى البروفيسور العالمى، ولم تنتظر دورَها فى قائمة المرضى الطويلة، التى لا ينتظمها إلا شىء واحد وفقط: خطورة الحالة. قائمة المرضى لا تعرف شيئًا اسمه: غنىّ وفقير، مسلم ومسيحى، أبيض أو أسود، إلى آخر تلك التصنيفات العبثية النائتة عن مظلّة الإنسانية، كل ما تعرفه تلك القائمة، وترتّب على أساسه أولوياتها، هو أن هناك قلبًا مريضًا يجب أن يُشفى.
الحكاية تتكرّر كل يوم. طفلة الخادمة مريضة، تذهب بها أمُّها كل نهار من طبيب إلى طبيب، حتى شارفت على الموت والطيران إلى السماء الأرحم بنا منّا على بعضنا البعض. وحين ضربهم اليأس فكّروا فى البروفيسور الشهير، لكن من أين لهم بالوساطة التى تدفع الطبيب الشهير لفحص طفلة فقيرة؟! سألوا صديقتى أن تتدخل بنفوذها وشهرتها ومعرفتها بكبار البلد، ولكن، قبل تدخّلها، هاتفوها وأخبروها أن البروفيسور وافق على رؤية الصغيرة لخطورة الحالة، ولا داعى للوساطة، وهم فى طريقهم لأسوان، حيث المركز الطبىّ العالمى الكبير. لم يسأل المستشفى عن اسم الطفلة ولا معتقدها الدينى ولا مركزها المالى، فقط طلبوا تقرير الأطباء السابقين الذين فحصوها فى القاهرة. وخضعت الطفلة لمشارط البروفيسور العالمى، وشُفيت بأمر الله وعبقرية طبيب مصرى نبيل، وبالمجّان. دون وساطة، ودون مصالح متبادلة، فى دولة لا تُسيّر أعمالها، للأسف، إلا بالوساطة والرشاوى والنفوذ وتبادل المصالح.
بالتأكيد عرفتم الآن مَن فارس مقالى. إنه البروفيسور الذى جاء من أسوان إلى القاهرة لينقذ حياة طفلة أخرى أبوها ليس إلا بائع شاى فقيرًا. أجرى العملية مجانًا ودفع من جيبه تكاليف ما بعد العملية من متابعة وأدوية وأشعات وفحوص. أيضًا دون أن يسأل عن اسم الطفلة المريضة، ولا عن دينها. نعم، هو السير مجدى يعقوب، معجزة مصر الطيبة، وأحد أهراماتها البشرية الشاهقة، أحد أكبر أساطين الطب فى العالم، الذى أخبرته الملكة إليزابيث وهى تمنحه لقب فارس أنه هدية مصر للعالم أجمع. فطوبى لمصر بكَ، وطوبى للعالم بعلمك الرفيع وروحك النبيلة.