جريدة الردستور تكتب .. كيف ردت السيدة العذراء بصر مؤلف أشهر ترنيمة قبطية

الحق والضلال

كل فرح قد صار بسبب ست الأبكار ولولاها ما صار الضوء لعينيا
لولا هى شفتنى فى الشدة ورحمتنى وبمرهمها شفتنى ولها نذر عليا
بماذا أقدر أجازيها؟ وما هو عندى يرضيها؟ إلا مدحى فيها تمجيدًا وهدية

الأبيات السابقة جزء من إحدى أشهر الترنيمات القبطية، التى يحفظها كثير من الأقباط، ويشدون بها فى حب الغالية جدًا على قلوبهم، السيدة العذراء مريم، خاصة أيام الأحد والإثنين والثلاثاء، طوال شهر كيهك .
وتعود أهمية هذه الترنيمة إلى خروجها من قلب مملوء حبًا ومشاعر جياشة، عرفانًا بالجميل الذى قدّمته له أم النور فمن هذا الشخص الذى كتب هذه الكلمات العذبة؟ وما المعجزة التى حدثت له ودفعته لذلك؟

زيارة أعادت النور لعينى الإبيارى والأخير رد الجميل بـ المدائح المريمية

كاتب هذه الترنيمة الشهيرة يدعى فضل الله الإبيارى، من منطقة إبيار التابعة لمركز كفرالزيات فى الغربية، وهو ما تكشفه الخاتمة التى ذيّل بيها الأبيات التى كتبها، قائلًا: وأنا العبد القارى فضل الله الإبيارى وأبومينا جارى محمى له ورعية ، فـ أبومينا هنا يشير إلى دير مار مينا الحبيس فى إبيار . وكتب الإبيارى العديد من المدائح المريمية، لكن تظل هذه الترنيمة تحمل أهمية خاصة، لأنها تحكى قصة معجزة رد بصره إليه، بفضل شفاعة السيدة العذراء مريم.
فخلال أبيات الترنيمة يحكى صاحبها عن فقده نعمة البصر، ما دفعه للجوء إلى جميع حكماء عصره فى الطب، لكن لم يجد من يعينه، حتى دله البعض على كنيسة السيدة العذراء مريم فى قرية الريدانية التابعة لمدينة المنصورة فى الدقهلية، فتوجه إليها وطلب من السيدة العذراء الشفاعة لشفائه، وبالفعل عاد إليه بصره.
ومن بين المخطوطات التى تحدثت عن الترنيمة، المخطوطة رقم ٢٨٣ المحفوظة فى المكتبة الوطنية الفرنسية بالعاصمة باريس، التى تضم ٣ أجزاء خُصص الأول منها لـ فضل الله الإبيارى وما كتبه، ونقله لنا وحققه، القس باسيليوس صبحى رزق، راعى كنيسة السيدة العذراء مريم فى الزيتون، الذى نشرها فى العدد الأول من مجلة الكرمة الجديدة عام ٢٠٠٤، من خلال سلسلة مقالات بعنوان: شخصيات فى تاريخنا .
وقال القس باسيليوس ، لـ الدستور ، إنه اكتشف المخطوطة أثناء دراسته الدكتوراه فى العلوم اللاهوتية بكلية اللاهوت فى جامعة أثينا، مشيرًا إلى أنها تعود لتاريخ ١٧ نوفمبر عام ١٦٤٦ ميلادية.
وأضاف أن المخطوطة تكشف عن أن فضل الله الإبيارى كان من الشخصيات القبطية الصالحة، ويعمل مُباشرًا أى مشرف مساحة ، ولظرف ما- لم تذكره المخطوطة- فقد بصره، ومعه عمله، ما جعله يلجأ إلى الأطباء فى كل مكان، سائلًا من يداويه ويرد له بصره. وحين دلوه على كنيسة العذراء فى الريدانية قصدها ولم يتأخر، وهناك صنع الله له معجزة بشفاعة أم النور ، وعاد إليه بصره، وقام وقرأ فصلًا من الإنجيل بنفسه، ومن يومها، وعرفانًا بالجميل، صار الإبيارى ينظم الشعر ويكتب المدائح فى حب من تشفعت له ليضىء الله نور عينيه من جديد. واسم كنيسة السيدة العذراء مريم فى الريدانية ذُكر ضمن سلسلة تاريخ أبوالمكارم عن الكنائس والأديرة، فى عام ١٢٠٦م، وفى خطط المقريزى ، عام ١٤٤٤م، وقيل عنها إن لها شأنًا جليلًا عند الأقباط .

الآلاف يتبرّكون بـ مقصورة أم النور ويطلقون عليها أيقونة العجائب

توجهت الدستور لزيارة كنيسة السيدة العذراء فى الريدانية ، لتبحث بين جدرانها وفيما حولها عن المزيد من القصص والخبرات الإنسانية التى تعكس عمق محبة كل المصريين لـ أم النور .
و الريدانية قرية تابعة لمركز المنصورة بالدقهلية، وتقع شمال المنصورة بنحو ٦ كم، وسُميت بهذا الاسم نسبة لـ ريدان الصقلى ، ابن عم القائد جوهر الصقلى، بعدما سكنها فى فترة ما، وهى تختلف عن المنطقة التى وقعت فيها معركة الريدانية الشهيرة بين الجيش العثمانى وجيش طومان باى، السلطان المملوكى الأخير، فالأخيرة المقصود بها منطقة العباسية حاليًا.
وتقع القرية على طريق المحلة- المنزلة ، وما إن تدخلها تستقبلك منازلها البسيطة المحاطة بطابع ريفى يغلب على المكان، بأراضيه الزراعية الممتدة، ومشاهد العاملين فى الزراعة ورعى الأغنام، إلى جانب محلات البقالة الصغيرة والصيدليات وغيرها من المحلات التجارية.
عبر حارة صغيرة وسط القرية، تجد بين المنازل الطريق المؤدى إلى البوابة البحرية للكنيسة، وهى الرئيسية بجانب بوابتين أخريين قبلية وغربية ، وهناك يمكنك الدخول من خلال باب معدنى طويل يعلوه قوس معدنى يتوسط قمته الصليب، مع وجود أشجار تحيط بالمكان.
عن يمينك تجد مظلة خشبية بجوارها كافتيريا ومكان صغير للعب الأطفال، وفى اليسار هناك بيت خلوة مكون من ٧ طوابق، وهو يستقبل على مدار العام شبابًا من جميع كنائس الجمهورية، الراغبين فى فرصة للاختلاء مع الله والتفرغ للصلوات وقراءة الكتاب المقدس.
أما أمامك فستجد الباب البحرى للكنيسة المشيدة على طراز القرن التاسع عشر، ومكتوب بجوار الباب على لوحة رخامية بيضاء إنه تم ترميم وتجديد الكنيسة فى عام ١٩٩٥.
وتعلو صحن الكنيسة من الداخل قبة فى الوسط ترتفع على قبة مثمنة محمولة على ٤ أعمدة رخامية يغلب عليها الطابع القديم، مع وجود ٤ قباب منخفضة محيطة بالقبة المركزية.
والكنيسة بها ٣ هياكل، الأوسط للسيدة العذراء مريم وسترة مزينة بصورة العذراء الملكة، والبحرى للشهيد العظيم مار جرجس، والقبلى لرئيس الملائكة ميخائيل، وتعلو كل منها قبة على رقبة بها شبابيك. ومن أشهر ما تحويه الكنيسة، مقصورة أيقونة السيدة العذراء مريم، التى تقع بجوار الباب البحرى للكنيسة من الداخل، ومعلق أمامها شورية مملوءة بالزيت، ليتبارك بها زوار الكنيسة الذين يأتون بالآلاف من كل حدب وصوب، لما تشتهر به من كونها أيقونة العجائب .

المكان سجل ظهورًا مريميًا فى الستينيات ويحيطه المسلمون المحبون من كل جانب

الساعة الآن السادسة صباح الأحد، أول أيام صوم السيدة العذراء مريم، حيث بدأ القداس الإلهى فى كنيسة الريدانية ، برئاسة القمص يوسف عبدالسيد، راعى الكنيسة، وعدد محدود من الزائرين الذين بادروا بالتسجيل المسبق لحضور القداس ، وملتزمين تمامًا بإجراءات الاحتراز من فيروس كورونا المستجد .
وخلال القُداس ، تقدمت أسرة للأب الكاهن ومعهم طفلهم الرضيع لكى يقوم بتعميده، وسط إطلاق الحضور الزغاريد .
وعقب انتهاء القُداس ، التقينا القمص يوسف عبدالسيد، والمهندس هانى عبده، وكيل الكنيسة، وعددًا من الخدام، الذين رووا لنا بدقة ما حدث يوم مجىء فضل الله الإبيارى إلى الكنيسة منذ ٤٠٠ عام، طالبًا شفاعة العذراء.
وقال مسئولو الكنيسة إن الإبيارى وصل ليلًا وفتح له راعى الكنيسة آنذاك بابها ليبيت داخلها وراء أحد أعمدة صحونها الأربعة، وفى الصباح الباكر أُقيم القداس ، وحينما جاء وقت قراءة فصل من الإنجيل، طلب الأب الكاهن من شماسه الذهاب للرجل فاقد البصر الجالس وراء العمود، ويقول له: قم وتعال لتقرأ الإنجيل .
وبالفعل، قام الإبيارى من مكانه وسط دهشة الجميع، وعيناه تترقرقان بالدموع لهول ما يحدث، ليحضر بعدها إلى المنجلية ويقرأ الإنجيل بنفسه، إعلانًا لتحقق معجزة رد بصره بشفاعة من السيدة العذراء مريم، داخل كنيستها فى الريدانية ، وهو ما سجله فى المدائح المريمية الكيهكية ، التى كتبها بنفسه تمجيدًا للعذراء، ولا تزال تُقال حتى اليوم فى كل الكنائس القبطية الأرثوذكسية.
ولا يقتصر الأمر على الإبيارى ، ويحفل تاريخ الكنيسة بـ العديد والعديد من المعجزات القديمة والمعاصرة، التى صنعها الله بشفاعة العذراء مريم، لكل من يأتى إلى الكنيسة ويقدم طلبه أمام مقصورتها، دون تفرقة بين مسيحى أو مسلم ، وفقًا لخُدام الكنيسة.
وأشار خُدام الكنيسة إلى تسجيلها ظهورًا شهيرًا للسيدة العذراء، وذلك فى ليلة عيدها يوم ٢١ أغسطس عام ١٩٦٨، موضحين أنه استمر لما يزيد على ساعة، وشاهدها حينها جميع الأهالى والزوار، من المسلمين والمسيحيين .
وقال الخُدام إن جميع منازل القرية المحيطة بالكنيسة حاليًا يقطنها مسلمون، ما عدا منزل واحد ملاصق للكنيسة به عدة شقق يملكها مسيحيون، وذلك بعدما ترك أعيان أقباط منازلهم وتوجهوا إلى مدينة المنصورة المجاورة، وأهدوا هذه المنازل لعدد من الأهالى المسلمين المقربين لهم.
وشددوا على أن الكنيسة تحظى بحب واحترام جميع جيرانها المسلمين، ويرجع هذا لعدة أسباب، أهمها على الإطلاق حبهم الشديد للسيدة مريم، كما أن الجيل الأكبر من الأهالى ما زال يتذكر القمص إبراهيم، الذى كان محبًا للجميع ويقف بجوار المسلمين والمسيحيين فى الشدة والفرح.
وأضافوا: من علامات اللُحمة الوطنية فى القرية، أن ما تبقى من مدافن الأقباط على حدود القرية محاط أيضًا بمنازل ومدافن وأراضى الأهالى المسلمين .
وبخروجنا من الكنيسة، وقفنا أمام محل بقالة يملكه مسن يدعى عم محمد ، الذى روى قصة أم العز ، وهى سيدة مسلمة رحلت وهى فى الـ٩٥ من عمرها، وكانت تسكن بجوار الكنيسة.
وقال عم محمد : أم العز كانت تحب ستنا مريم حبًا شديدًا، حتى إنها تجلت لها مرارًا فوق منارة الكنيسة، وكان بيتها عامرًا بالزائرين الذين تحكى لهم ما تراه وتشاهده من عجائب .
وأضاف: كان كثيرًا ما يترك الأب راعى الكنيسة حينها للسيدة أم العز مفتاح الكنيسة، لكى تعطيه لأى مسلم يريد الدخول وأخذ البركة .
          
تم نسخ الرابط