ناسكاً خارج الأديرة ، راهباً وسط العالم.. فمن هو؟
انه عباس جرجس صديق الذي اشتهر بالغالي وكانت دائم الزياره للارامل والايتام وكان حريصا علي خدمة الفقراء حقاً كرازة صامتة، حياة عاملة، سيرة طيبة، يحتذى بها فى كل مكان. أعماله كانت تفوق أقواله البسيطة التي تظهر ما بداخله من صفاء و استنارة. هكذا قال عنه الأنبا كيرلس أسقف “نجع حمادي”. “عباس ” اسم غير مسيحي، تردد من أعماق صعيد مصر، بسيط يلبس جلباب قديم وعمامة مثل أبسط الفقراء. لم يكن كاهناً و لا راهباً و لا أسقفاً ، كان من عامة الشعب، أحبه الجميع. التصق ” الغالى ” باسم عم عباس، اللقب الذى أطلقه عليه أهل البلدة لأنه كان ينادى اى شخص و يقول له ” يا غالى ” ليجعل الإنسان الذي أمامه يشعر بقيمة نفسه لدى المسيح ، و يا “قمر” و هى فى حد ذاتها تعنى الاستنارة التى تبدد الظلام. بداية التكريس فى أحد أحياء “بهجورة” العتيقة فى 21 من يونيه 1903 ولد عباس جرجس صديق، الشهير ب ” الغالي” لأبوين تقيين. تلقى تعليمه الابتدائي ب”مدرسة داود بك تكلا” فى مبناها القديم بالبلدة، وفى سن الخامسة عشرة من عمره، رفع بصره إلى السماء و صلى و نذر ان يظل بتولاً، و أن يكرس حياته لخدمة الرب . توفى والده و هو شاب صغير ووجد نفسه مسئولاً عن أمه و شقيقة المريض، و من ثم فقد إلتحق بالعمل فى محل لبيع الأقمشة بنجع جمادى، يملكه عدلى إبراهيم أبو عسل ، الذى ترك له حرية إدارة المحل. وكان الغالي يقطع المسافة بين “بهجورة” و “نجع حمادي” حوالي 3 كيلو مترات ذهاباً و إياباً راكباً على حمار. كان الدكان الذى يعمل به “الغالى ” فى منطقة شعبية مزدحمة بالناس، و حتى لا تشغله الضوضاء عن اإستغراق فى القراءة والتأمل ، كان يضع فى أذنيه قطعة من القطن . كان يقرأ ما بين خمسين إلى ستين إصحاحاً فى اليوم الواحد ، و يبدأ جهاده الروحي بعد منتصف الليل . الغالى وحلم صيف 1935 فى صيف عام 1935 ، دعاه شباب “جمعية خلاص النفوس القبطية ” للإنضمام إليهم و قبل “عباس” أن يشاركهم الخدمة، وتم إختيار “عباس” بالإجماع ليكون أميناً لصندوق الجمعية. و استمر فى ذلك الوضع ما يقرب من ستين عاماً وحتى نياحته. وجد “عباس” ضالته المنشودة فى خدمة “أخوة الرب” . و ذات يوم، فاجأ عباس زملاءه أعضاء الجمعية، و قال انه رأى حلماً يبشر بالخير، و إنتبه له الجميع. قال عباس ووجهه يشرق بالتفاؤل و الحماس: “لقد سمعت صوتاً يقول لى : سوف تبنى مدرسة و ملجأ و كنيسة، و تكرر الصوت فى سمعى ثلاث مرات” . نظر الزملاء بعضهم إلى بعض و فى عيونهم تساؤلات ساخرة و قالوا: “إحلم على “قدك” يا “عباس” كيف و نحن بالكاد ندبر – من مصروفنا الخاص – قيمة إيجار المكتبة و قدره خمسة عشر قرشاً ندفعها أول كل شهر؟” لكن عباس كان واثقاً فى وعد السماء له، رأى بعين الإيمان ما لم يره أحد غيره. لم يمض وقت طويل حتى اشترى “الغالي” أول قطعة أرض تبعد قليلاً عن مقر نشاطهم الأول ، طلب صاحبها خمسة و أربعين جنيهاً ثمناً لها ، و دفع “الغالي” بعد أن إستدان معظم ثمنها . نقل أعضاء الجمعية نشاطهم إلى المبنى الجديد ، الشديد التواضع ، حيث مارسوا نشاطهم المعتاد فى حرية أكثر . و فى ذات يوم ، كان الأعضاء مجتمعين كالعادة ، فرحين بمقرهم الجديد فاجأهم “الغالي” بقوله : “هنا وفى هذا الموقع بالذات سوف نبني المدرسة” . همس أحد الشباب فى أذن “الغالي” : “كن واقعيا يا “عباس” و كفاك أحلاماً مستحيلة!” بعدها بشهور عرضت سيدة منزلها المجاور للبيع، تقدم “عباس الغالي” للشراء، ولكن رفضت السيدة البيع دون إبداء الأسباب، و فى اليوم التالي أقبلت هذه السيدة، وتدعى اسكندرة فلسطينى و طلبت من “الغالي” أن يستلم الأرض ، و عندما سألها “الغالي” عن سبب تغيير رأيها هكذا ، قالت أن السيدة العذراء ظهرت لها فى الحلم و أمرتها بالبيع له. و فى هذا المبنى بدأت الدراسة فى مدرسة “الإتحاد الابتدائية المشتركة” المجانية فى عام 1945 ، ثم اشترى الغالى ثلاث بيوت أخرى ضمها للمدرسة. بدأت المدرسة بأربعة فصول و كانت تعرف للعامة باسم “مدرسة عباس”، و اتسعت إلى ستة فصول دراسية، و دخلت فى نطاق الإعانة الحكومية عام 1965. و بلغ عدد التلاميذ فى ذلك الوقت حوالي ثلاثمائة طالب. أدت و تؤدي خدمات جليلة لأبناء “بهجورة” من مسلمين ومسيحيين . “الغالي” باع الحمار و بيته فى شارع الكرم، و على مسافة لا تزيد عن مائتى متر من مقر مدرسة “الإتحاد الابتدائية”، عرضت قطعة أرض للبيع ، طلب صاحبها مائتين و خمسين جنيهاً ثمناً لها، وهو مبلغ باهظ فى ذلك الوقت. ودفع “الغالي” مائة و خمسين جنيهاً، و تعهد بدفع باقى الثمن بعد أن وقع كمبيالات تدفع لها فوائد تأخير . عندما حل موعد تسديد إحدى الكمبيالات لم يجد “الغالي” سوى الحمار فباعه، و هو كل ما يملك، و انتقل مقر “جمعية خلاص النفوس” القبطية الأرثوذكسية إلى هذا المكان المتسع، بعد أن اشترى مزيداً من الأراضى المجاورة، و أطلق عليها اسم “جمعية السيدة العذراء” فيما بعد . وقد جمع “عباس الغالي” بعض الأطفال اليتامى ، ممن لا عائل لهم و جعل من مقر الجمعية ” ملجأ “، لهم و رفض ان يطلق كلمة ملجأ على المكان . و اهتم “الغالي” برعايتهم و نظافتهم و تعليمهم، و لم يقبل ان يتعرض لهم أحد بسوء مهما كانت الأسباب، و قد عهد بتعليمهم القراءة و الكتابة و الألحان فى مرحلة الحضانة إلى “المعلم لبيب”، الذى مكث مع “الغالي” حوالي أربع سنوات، ترهبن بعدها فى دير الأنبا هدرا بأسوان ، و قد تمت رسامته قسا بيد نيافة الأنبا هدرا باسم الأب مكسيموس . أقام “الغالي” فى حجرة بسيطة من هذا المبنى ، بعد أن باع منزله الذى ورثه عن أبائه. و سعد كثيراً بصحبة الأطفال الأيتام ، فكان لهم بمثابة الأب و الأم و المرشد ، كثير من هؤلاء الاطفال أصبحوا الآن رجالاً مرموقين . مشروع الرغيف ظل إهتمام “عباس الغالي” بالفقراء قائماً، و من أجلهم أنشأ ” مشروع الرغيف ” كل يوم سبت ، اليوم المفضل لعمل الخبز الشمسى ، و كون لجنة من الشباب لجمع الأرغفة من بيوت القادرين ، و توزيعها سراً فى نفس اليوم على الفقراء و الم